هُنا كانت القاهرة

أنا … مصرية الهوية و الهوى، قاهرية السكن و الذكريات. غادرتها من سنين و تركت فيها أجمل ما في النفس من شعور… الانتماء. فمنذ ذلك الوقت و انا لا انتمي الى مكان و لا الى انسان، و اصبحت انتمي الى نفسي فقط، و نفسي تحيرني ما بين ذكرياتها المصرية القديمة التي تكاد تمحوها ذكريات الغربة القريبة. اذا نظرت الى نفسي وجدتني اثنتين متعايشتين مع بعضهما البعض و تشبهان بعض و لكن مكون كل منهما مختلف

أين أنا من تلك الفتاة الحالمة التي كانت احلامها و طموحاتها تملاً الدنيا صخباً و افكاراً و ضحكات تعلو الى السماء. بل أين تلك الفتاة من هذه المرأة المثقلة بهموم اليوم و الخوف من الغد و قد جفت مآقيها من سهر الليالي وحيدة تحدث نفسها و نفسها لا ترد حديثاً! … و في نهاية اليوم شاكرة لكل ما انعم به الله عليها

صدق من قال أن البعيد عن العين بعيد عن القلب… فالغياب الطويل من اصعب الاقدار و اغربها، و تصبح العودة محملة بتوقعات كثيرة و خطط وهمية لا تمت للواقع الصادم بشىء

تغيرت القاهرة … وقهرتني انا و اولادي بزحامها و صخبها و مبانيها القديمة، ذلك الذي كان عادياً بالنسبة لي في يوم من الايام، طبعاً لقد هرمنا ! انها انطباعات متوقعة و اظن انها تحدث مع كثير من المغتربين، فتغير المكان و الزمان و المقارنه غير المنصفة بين هناك وهنا تجعلك كالمفقود في الفضاء حتى في مفردات كلماتك التي يسخر منها كثير من السامعين

أما على مستوى الأسرة الحبيبة، فقد كبروا الصغار … و كبروا أيضاً الكبار، و تغيرت المعادلة و زاد عدد الأحفاد، و نقص عدد الأقارب فرحل منهم الكثير و لم يخبروني عنهم حتى أني للأسف لم اكد احزن على أي منهم لكثرتهم

و لغرابة الموقف لم اجد ما احادثهم فيه و لم اشفي شغفهم بمعرفة تفاصيل التفاصيل، وكنت مستمعة متململة اكثر من متحدثة، فبرغم كل الاحداث التي مرت و تمر بي، لم اجد لديً رغبة لمشاركتهم بها. النفس الثانية بداخلي لم ترحب كثيراً بمجلسهم و لا بحواراتهم المكررة و التي تفيض بالشكوى من الجحود و الغلاء و المرض و و و …و الوحدة ! و من أكثر مني يعرفها و يصادقها ليل نهار

أشعر بالخجل من نفسي نحو هذه المشاعر التي كنت اتمنى أن ابادلهم بأحسن منها فهم يستحقون الأفضل. و انتظارهم الحار لي اخجلني و زاد من العبء على نفسي و لا اعرف لذلك سبباً واضحاً

في كل مرة اصل الى القاهرة انتظر منها شيئاً جديداً أو سبباً جديداً حتى اضمها الى قلبي كما كنت افعل سابقاً، و للأسف لم تعطني اياه. و مازلت اتظاهر بأني أحبها – ربما ليس في فصل الصيف الملتهب– او لعلني مازلت احبها و أن فقط طاقة اولادي السلبية تجاهها هي التي كانت تؤذيني و تحجب عني كل ما كنت احبه فيها و اتغنى به

تصحو الآن ذكرى والدي رحمه الله عندما كان في الزمن البعيد يفتح الراديو في الصباح الباكر، و استيقظ أنا على صوت المذيعة تقول “هنا القاهرة” فكنت امازحه صغيرةً و اقول له بأن القاهرة هنا في صالة بيتنا فيضحك و يوافقني القول. و ها أنا بعد عشرات السنين من السفر و العودة يساورني نفس الظن بأن القاهرة … قاهرتي كانت هناك في بيتنا و ذهبت معه، و برغم تكرار العودة ثم السفر مازلت اشتاق اليها في خيالي بقدر اشتياقي لوالدي و اشتياقي لبيتنا القديم  

إلا أنها تبقى رائعة تلك الليالي النيلية المضيئة، و تبقى عزيزة و غالية تلك الضمة الأولى عند الوصول، المفعمة بالحب و الشوق و الحنين و كل الدفء العائلي الذي اتوق اليه، و أبقى أنا احمل لقب “غريبة” مهما اقتربت

زهرة لوتس

لست وحدك

ساقتني ظروف عملي إلى حضور معرض اقيم على هامش المؤتمر الدولي للتوحد. والتوحد لمن لا يعرف هو مرض يصيب الأطفال من عمر الثالثة ويؤثر في نموهم العصبي وينعكس على ضعف تواصلهم مع البيئة المحيطة بهم

لم اكن اعرف ان المصابين بهذا المرض عددهم كبير بهذا الشكل ! فقد جاءوا من عدة دول يتلمسون الأخبار و الأساليب التي يقترحها المتخصصون في هذا المجال لتسهيل اندماج هذه الفئة ضمن مجتمعهم والعمل على تخفيف اعراض المرض بقدر الامكان… اذ لا شفاء له على حد علمي، والله أعلم

كان مما اثر في نفسي خلال فعاليات هذا المعرض هم الأهالي… أهالي المرضى بالتوحد الذين رأيتهم يتجولون في ارجاء المعرض من شركة الى مركز الى مختبر ، أظنهم يبحثون عن اجابة لأسئلتهم القابعة في احضانهم حبيسة قلوبهم المنفطرة على ابنائهم ! سؤال واحد تراه على وجوههم جميعاً … و ماذا بعد؟

فعلى ما يبدو أن كلهم قد مروا بنفس مراحل العلاج و التأهيل و دور الرعاية المتخصصة… ثم ماذا بعد؟  فقد توقف التطور والتحسن في الحالة عند مرحلة معينة لا يتقدم كثيراً بعدها خاصة فيما يتعلق بتواصل و تفاعل المريض مع المجتمع . لقد كانت لحظة صعبة التي وقعت فيها عيني على بعض الأهالي وهم تملأ عيونهم الحيرة و تستتر خلف ملامحهم الحسرة ، وتتعالى أصواتهم بنفس الاستفسارات … كلهم يحملون الألم نفسه في أصواتهم وفي نظرات عيونهم، ولكن لم ينقطع منهم الأمل في أن الغد ربما يحمل لهم أي جديد

و على جانب آخر، رأيت هؤلاء الذين يسعون وراء الربح والبيزنس و البوفيه المفتوح والعصائر، يشدون الأهالي المكلومين إلى مقرات شركاتهم ومراكزهم ليعرضوا بضاعتهم البائرة التي لا يمت بعضها بصلة لا من قريب ولا من بعيد إلى التوحد. ثم يتقاتلون على التصوير والتصريحات الصحفية والتليفزيونية دون مراعاة لمشاعر زوار المعرض من الأهالي الذين كانوا يتوارون على استحياء من الكاميرات و الميكروفونات

 ساعتان فقط هي المدة التي قضيتها بين اروقة ذلك المعرض… ولكن الآثر الذي تركه على نفسي كان بمقدار عمر كامل مر بي كالطيف… كآلة الزمن نقلتني من حقبة الى حقبة تمكنتٌ فيها من اختراق اجساد البشر و رؤية قلوب ونفوس تجردت من زيف الحياة و لم يبق فيها إلا الحقيقة … وكل شجاعة الدنيا لمواجهة هذه الحقيقة. رأيت ألماً أكبر بكثير من ألمي ، وهموماً تضاءلت أمامها همومي التافهة التي كدرت حياتي. رأيت أناساً يحملون على عاتقهم مسئولية تنوء بحملها الجبال ، ومازالت البسمة تعلو شفاههم و تملأ السكينة نفوسهم. هي أقدارهم و رأيتهم كيف يمتثلون لها بكل الصبر والرضا

إليكم أقول … إن كان ما أقول ذا قيمة أمام قاماتكم … لستم وحدكم فيما تحملون، فهناك قلوب تشعر بكم وبألامكم وتنحني جباهها أمام عِظَم آمالكم التي أتمنى أن تتحقق كلها. لعلها ستتحقق يوماً ما من شدة ايمانكم بها

زهرة لوتس